♦ عنوان الكتاب.
♦ سبب تصنيفه
♦ مدّة تصنيفه
♦ موضوع الكتاب.
♦ مدى عنايته في تأليفه.
♦ شرط الإمام البخاريّ في كتابه الجامع الصَّحيح
♦ منهج البخاري في كتابه الجامع.
♦ عدد أحاديث الجامع
♦ تكرار البخاري لبعض الأحاديث في الجامع.
♦ تقطيع بعض أحاديث الجامع.
♦ معلَّقات البخاري في الجامع وحكمها.
♦ تراجم البخاريّ في الجامع.
♦ مكانة الجامع الصّحيح العلمية.
♦ رواة الجامع الصّحيح.
♦ أهمّ شروح الجامع.
بسم الله الرحمن الرحيم
عنوان الكتاب:
بعنوان الكتاب يُعرَف موضوعه، ويتبيّن رسْمُه، وقد اشتهر الكتاب قديمًا وحديثًا في أكثر الفنون، وعلى ألسنة جُلِّ العلماء باسم: صحيح البخاري، وربَّما ذُكِر باسم: الجامع الصّحيح، أمَّا اسمُه الذي سمَّاه به مؤلِّفه، فقد اختُلِف فيه على قولَين مُتقاربين:
الأوَّل: الجامع المسند الصَّحيح المختصر من أمور رسول الله- صلَّى الله عليْه وسلَّم- وسُنَنه وأيَّامه[1].
الثَّاني: الجامع الصَّحيح المسند من حديث رسولِ الله- صلَّى الله عليْه وسلَّم- وسُنَنه وأيَّامه[2].
سبب تصنيفه:
ذَكَرَ الحافظ ابن حجر ثلاثةً من الأسباب الباعِثة لتصنيف البخاري الجامع الصّحيح، ولا مانع من أنْ تكون كلُّها مجتمعةً هي التي حرَّكت بواعث تصنيفه لدى البخاري، وهي:
أوَّلًا: تجريد الحديث النَّبويِّ: فإنَّه في آخر عصر التَّابعين ابتدأ تدوين الحديث النَّبوي، وكان التدوين ممزوجًا بأقوال وفتاوى الصَّحابة والتَّابعين، وغيرها، بالإضافة للحديث، وكذا كانت هذه التَّآليف جامعةً بين الحديث الصَّحيح والحسن والضَّعيف والمعلول وغيره، فكان هذا سببًا من الأسباب التي حرَّكت همَّة أبي عبدالله لتجْريد الحديث الصَّحيح من غيره [3].
قال الإمام النّووي: أوَّل مصنَّفٍ في الصَّحيح المجرَّد: صحيح البخاري [4].
ثانيًا: سمع البخاري شيخه ومعلِّمه أمير المؤمنين في الحديث إسحاق بن راهويه يقول: لو جمعتُم كتابًا مختصرًا لصحيح سنَّة رسول الله- صلَّى الله عليْه وسلَّم، قال البخاري: فوقع ذلك في قلبي فأخذتُ في جمع الجامع الصَّحيح [5].
ثالثًا: قال البُخاريُّ- رحِمه الله-: رأيتُ النَّبيَّ- صلَّى الله عليْه وسلَّم- في المنام وكأنَّني واقفٌ بين يديْه، وبِيدي مروحةٌ أَذُبُّ بها عنه، فسألتُ بعض المعبِّرين، فقال لي: أنتَ تَذُبُّ عنه الكذِب، فهو الَّذي حَملني على إخراج الجامع الصَّحيح [6].
مدَّة تصنيفه:
قال البخاريُّ- رحمه الله-: صنَّفتُ الجامع الصَّحيح لستَّ عشرة سنة [7].
موضوع الكتاب:
قال البخاريُّ: ما أدخلتُ في كتابي الجامع إلاَّ ما صحّ، وتركتُ من الصَّحيح حتَّى لا يطول [8]، وقال: لم أخرِّج في هذا الكتاب إلاَّ صحيحًا، وما تركتُ من الصَّحيح أكثر [9].
قال ابن الصَّلاح: فإنَّما المراد بكلِّ ذلك: مقاصد الكتاب، وموضوعه، ومتون الأبْواب، دون التَّراجم ونحوها؛ لأنَّ في بعضها ما ليسَ من ذلك قطعًا [10].
فقد صرَّح أنَّ المقصود بالذَّات هو الأحاديث الصَّحيحة، ويستفاد هذا أيضًا من تسميته: الجامع الصّحيح، وعليه؛ فما يُذْكَرُ فيه من الموقوفات والمعلَّقات وغيرها فهوَ بالعَرَضِ.
مدى عنايته في تأليفه:
لم يَأْلُ البخاري- رحمه الله- جهدًا في العناية بهذا المؤلَّف العظيم، يتَّضِح مدى هذه العناية بقولِه: ما أدخلتُ فيه حديثًا إلاَّ بعد ما استخرتُ الله تعالى، وصلَّيتُ ركعَتَين، وتيقَّنتُ صحَّتَهُ [11]، وقولِه: ما وضعتُ في كتابي الصَّحيح حديثًا إلاَّ اغتسلتُ قبل ذلك، وصلَّيتُ ركعتَين [12]، وقولِه: صنَّفتُ كتابي الصَّحيح لستَّ عشرة سنة خرَّجتُه من ستِّمائة ألف حديثٍ، وجعلتُه حجَّةً فيما بيني وبين الله تعالى [13].
شرط الإمام البخاريّ في كتابه الجامع الصَّحيح:
قال أبو الفضل محمَّد بن طاهر المقدسي: اعلم أنَّ البُخاريَّ وغيره لم يُنقَل عن واحدٍ منهم أنَّه قال: شرطتُ أنْ أُخرِجَ في كتابي ما يكون على الشَّرط الفلاني [14]، وإنَّما يُعرف ذلك من سَبْرِ كتُبهم، فيُعلم بذلك شرطُ كلِّ رجلٍ منهم، ثمَّ ذكَرَ أربعة شروطٍ اشترطها البخاريُّ ومسلم في صحيحَيْهِما، وهي:
الأوَّل: أنْ يُخرج الحديثَ المتَّفق على ثقة نَقَلَتِه إلى الصَّحابي المشْهور.
الثَّاني: من غير اختلافٍ بين الثِّقات الأثبات [15].
الثَّالث: أنْ يكونَ إسناده متَّصلًا غير مقطوع.
الرّابع: إنْ كان للصَّحابي راويان فصاعدًا فحَسَنٌ، وإنْ لم يكن إلاَّ راوٍ واحدٍ وصحَّ الطَّريق إليه كَفَى [16].
وقد لخَّص ابن حجر الشُّروط الَّتي ذكرها الحازمي فقال: إنَّ شرط الصَّحيح أنْ يكون إسناده متَّصلًا، وأنْ يكون راويه مسلمًا، صادقًا، غير مدلِّسٍ، ولا مختلِطٍ، متَّصفًا بصفات العدالة، ضابطًا، متحفّظًا، سليم الذّهن، قليل الوهم، سليم الاعتقاد.
قال: ومذهب مَن يخرج الصَّحيح أنْ يَعْتَبِرَ حال الرَّاوي العدل في مشايخه العدول، فبعضهم حديثه صحيحٌ ثابتٌ، وبعضهم حديثه مدخولٌ.
قال: وهذا بابٌ فيه غموضٌ، وطريق إيضاحِهِ: معرفة طبقات الرّواة عن راوي الأصل، ومراتب مداركهم، فلنوضِّح ذلك بمثالٍ وهو: أنْ تعلمَ أنَّ أصحاب الزُّهري مثلًا على خَمْس طبقات، ولكلِّ طبقةٍ منها مزيَّةٌ على الَّتي تليها، فمَن كان في الطَّبقة الأولى فهو الغاية في الصِّحَّة وهو مقْصِد البخاري، والطَّبقة الثَّانية شاركت الأولى في التثبُّت إلاَّ أنَّ الأولى جمعت بين الحفظ والإتْقان وبين طول الملازمة للزُّهري، بحيث كان منهم مَن يُلازمُه في السَّفر ويُلازمه في الحضَر، والثَّانية لم تلازم الزُّهري إلاَّ مدَّة يسيرة فلم تُمارس حديثه، وكانوا في الإتقان دون الطبقة الأولى، وقد يخرج من حديث أهل الطَّبقة الثَّانية ما يعتمِدُه من غير استيعاب، وأكثر ما يخرج البخاري حديث الطَّبقة الثَّانية تعليقًا، وربَّما أخرج اليسير من حديث الطَّبقة الثَّالثة تعليقًا أيضًا.
ثمَّ قال: وكلام الحازمي هذا هو في حقِّ المكثرين، كأصحاب كلٍّ من الزُّهري ونافع والأعمش وقتادة وغيرهم، أمَّا غير المكثرين فإنَّما اعتمد الشَّيخان في تخريج أحاديثهم على الثِّقة والعدالة وقلَّة الخطأ، ومنهم من قَوِيَ الاعتِماد عليه فأخرجا عنْه ما تفرَّد به، ومَنْ لم يقوَ الاعتمادُ عليه أخرجا له ما شاركَه فيه غيره، وهو الأكثر [17].
وكان من شرط البخاري في الجامع اشتراط المعاصرة، وتحقُّق اللِّقاء بين الرَّاوي وشيخه إذا روى عنه بالعنعنة [18].
منهج البخاري في كتابه الجامع:
رتَّب الإمام البخاري الأحاديث على الكتُب مفتتحًا الجامع بكتاب: بَدء الوحي، مختتِمًا بكتاب: التَّوحيد، ثمَّ إنَّ هذه الكتب يحتوي كلٌّ منها على أبوابٍ متناسقةٍ في إيرادها [19]، وتحت كلِّ بابٍ عددٌ من الأحاديث.
وقصد البُخاري في صحيحِه إبراز فقه الحديث، واستنباط الفوائد منه، فعقد تراجم الأبواب- أي: عناوين الأبواب- وذَكَرَ في هذه التراجم الأحاديثَ المعلَّقة، وكثيرًا من الآيات وفتاوى الصَّحابة والتَّابعين ليبيِّنَ بها فقْه الباب والاستِدلال له [20]، وبهذا يكون قد جمعَ بين حفظ سنَّة رسول الله- صلَّى الله عليْه وسلَّم- وفهْمِها.
عدد أحاديث الجامع:
عند ابن الصَّلاح والنَّووي عدد أحاديثه مع المكرَّرات: (7275) حديثًا، وبحذْف المكرَّرات (4000) حديثًا [21].
وأمَّا ابنُ حجر فقال: فجميع أحاديثِه بالمكرَّر سوى المعلَّقات والمُتَابعات على ما حرَّرته وأتقَنتُه (7397) حديثًا [22]، ثمَّ قال: فجميع ما في صحيح البُخاري من المتون الموصولة بلا تكرير على التَّحرير (2602)، ومن المتون المعلَّقة المرفوعة الَّتي لم يوصلها في موضعٍ آخَر من الجامع المذكور (159) حديثًا، فجميع ذلك (2761) حديثًا، وبين هذا العدد الَّذي حرَّرتُه والعدد الذي ذكره ابنُ الصَّلاح وغيرُه تفاوتٌ كثيرٌ، وما عرفتُ من أينَ أتى الوهم في ذلك، ثمَّ تأوَّلتُهُ على أنَّه يحتمل أن يكون العادُّ الأوَّل [23] الَّذي قلَّدوه في ذلك كان إذا رأى الحديث مطوَّلًا في موضعٍ ومختصرًا في موضعٍ آخَر يظنُّ أنَّ المختَصَرَ غير المطوَّل؛ إمَّا لبعد العهْد به أو لقلَّة المعرفة بالصِّناعة، ففي الكتاب من هذا النَّمط شيء كثير، وحينئذٍ يتبيَّن السَّبب في تفاوُت ما بين العددين، والله الموفِّق [24].
وفي الإيضاح في علوم الحديث والاصطلاح: جملة ما في صحيح البخاري من الأحاديث (7124) حديثًا بالأحاديث المكرَّرة، وأمَّا بدون المكرَّرات فهي (2337) حديثًا... وهذا الرقم هو أقْرب ما قيل في عدَد أحاديث البخاري إلى الصَّواب [25].
تكرار البخاري لبعض الأحاديث في الجامع:
البخاري- رحمه الله- في بعض الأحيان يذكُر الحديث في كتابِه في عدَّة أبوابٍ، ويستدلُّ به في كلِّ بابٍ بإسنادٍ آخر، وإذا كان للحديث عنده على شرطه طريقٌ واحدة فيتصرَّف حينئذٍ فيه، فيورده في موضعٍ موصولًا، وفي موضعٍ معلَّقًا، ويورده تارةً تامًّا، وتارةً مقتصرًا على طرفه الَّذي يحتاج إليه في ذلك الباب.
وقلَّما يورد حديثًا في موضعَين بإسنادٍ واحدٍ، ولفظٍ واحدٍ، وإنَّما يُوردُه من طريقٍ أخرى؛ وذلك لمعانٍ، منها:
♦ يُخرج الحديث عن صحابيٍّ ثمَّ يورده عن صحابيٍّ آخَر، والمقْصود منه أنْ يخرج الحديث عن حدِّ الغرابة.
♦ ومنها أحاديث يَرويها بعض الرُّواة تامَّةً، ويرويها بعضُهم مختصرةً، فيُوردها كما جاءت ليزيلَ الشُّبهة عن ناقليها.
♦ ومنها أنَّ الرُّواة ربَّما اختلفتْ عِباراتُهم فحدَّث راوٍ بحديثٍ فيه كلمة تحتمِل معنى، وحدَّث به آخَر فعبَّر عن تلك الكلِمة بعينها بعبارةٍ أُخرى تحتمل معنًى آخر، فيورده بطرقه إذا صحَّت على شرطه ويُفْرِدُ لكلِّ لفظةٍ بابًا مفردًا.
♦ أوردَ أحاديث تعارض فيها الوصل والإرسال، ورَجَحَ عنده الوصْل، فاعتمده وأوْرد الإرسال منبِّهًا على أنَّه لا تأثير له عنده في الوصل، وكذا ما تعارض فيه الوقف والرَّفع.
♦ أورَدَ أحاديث زاد فيها بعض الرُّواة رجلًا في الإسناد، ونقَصَه بعضُهم، فيوردها على الوجهَين حيث يصحُّ عنده أنَّ الراوي سمعه من شيخٍ حدَّثه به عن آخَر، ثمَّ لقِيَ الآخَرَ فحدَّثه به؛ فكان يرويه على الوجهين.
♦ أنَّه ربَّما أورد حديثًا عنْعَنَهُ راويه، فيُورده من طريقٍ أُخرى مصرَّحًا فيها بالسَّماع على ما عرف من طريقته في اشتراط ثبوت اللِّقاء في المعنعن.
فهذا جميعه فيما يتعلَّق بإعادة المتْن الواحد في موضعٍ آخرَ أو أكثر [26].
تقطيع بعض أحاديث الجامع:
أمَّا تقْطيعه للأحاديث في الأبواب تارةً، واقتِصاره منْه على بعْضِه أُخرى، فذلك لأنَّه إنْ كان المتْن قصيرًا، أو مرتبطًا بعضه ببعضٍ، وقد اشتمل على حكمَين فصاعدًا، فإنَّه يعيده بحسب ذلك، مراعيًا مع ذلك عدم إخلائه من فائدة حديثيَّة، وهي إيراده له عن شيخٍ سوى الشَّيخ الَّذي أخرجه عنه، ويُسْتَفادُ من ذلك تكثير الطُّرق لذلك الحديث، وربَّما ضاق عليه مخرج الحديث، حيث لا يكون له إلاَّ طريق واحدة، فيتصرَّف حينئذٍ فيه، فيورده في موضع موصولًا، وفي موضع معلَّقًا، ويورده تارةً تامًّا، وتارةً مقتصرًا على طرفه الَّذي يحتاج إليه ذلك الباب، فإنْ كان المتن مشتملًا على جملٍ متعدِّدة لا تعلُّق لإحداها بالأخرى، فإنَّه يخرج كلَّ جملةٍ منها في بابٍ مستقلٍّ؛ فِرارًا من التَّطويل، وربَّما نشط فَسَاقَهُ بتمامِهِ، فهذا كلُّه في التَّقطيع.
ويتَّضح من ذلك أنَّ البخاري- رحمه الله- لا يتعمَّدُ أنْ يُخرجَ في كتابه حديثًا مُعَادًا بجميع إسناده ومتْنه، وإنْ وقع له شيء من ذلك فعنْ غير قصدٍ [27].
معلقات البخاري في الجامع وحكمها:
الحديث المعلَّق هو: ما حُذِفَ من مبتدأِ إسنادِه راوٍ واحدٌ فأكثر، ولو إلى آخِر الإسناد [28].
وقد ألَّف الحافظ ابنُ حجر في وصل تعليقات البُخاري كتابًا سمَّاه تغليق التَّعليق واختصر هذا الكتاب في مقدّمة الفتح، أي: في هدي السَّاري في فصلٍ طويلٍ ذكر فيه تعاليقَه المرفوعة والإشارة إلى مَن وصلها، وكذا المتابعات لالتِحاقها بها في الحكم.
قال الحافظ ابنُ حجر: وقد بيَّنتُ ما وصله منها في مكانٍ آخرَ من كتابه، ووصله في مكانٍ من كتُبه الَّتي هي خارج الصَّحيح بيَّنتُه أيضًا، وما لَم نقِف عليه من طريقه بيَّنتُ مَن وصله إلى مَنْ علَّق عنْه من الأئمَّة في تصانيفهم [29].
وحاصل الحُكْمِ على المعلَّقات في الجامع أنَّ البخاري أوردها إمَّا مرفوعةً أو موقوفةً.
فالمعلَّقات من المرفوعات على قسمين:
أحدُهما: ما يُوجد في موضعٍ آخرَ من كتابه موصولًا، وهذا لا إشكال فيه.
وثانيهما: ما لا يوجد في كتابِه إلاَّ معلَّقًا، فإنَّه على صورتَين:
الأولى: ما أورده بصيغة الجزْم، فيُستفاد منه الصِّحة إلى مَن علَّق عنه، لكنْ يبقى النَّظرُ فيمَن أبرز من رجال ذلك السَّند، فمنها ما يلتحق بشرْطِه ومنها لا يلتحق [30].
الثَّانية: ما أورده بصيغة التَّمريض: ففيه ما هو صحيحٌ، وفيه ما ليس بصحيح [31].
وأمَّا المعلَّقات من الموقوفات، فقد قال الحافظ ابنُ حجَر: وأمَّا الموقوفات فإنَّه يُجزم منها بما صحَّ عنده ولو لم يكن على شرْطِه، ولا يُجزم بما كان في إسناده ضعف أو انقطاع إلاَّ حيث يكون منجبرًا، إمَّا بمجيئه من وجهٍ آخر، وإمَّا بشهرته عمَّن قاله [32].
تراجم البخاريّ في الجامع:
ممَّا جَعَل صحيح البخاري مقدَّمًا على غيره من كتُب الحديث: ما ضمَّنه أبوابَه من التَّراجم الَّتي تحار فيها الأفكار.
وقد قيل: إنَّه لما ألَّفَ الصَّحيح كان يصلِّي ركعتين عند كلِّ ترجمةٍ، وبيَّضها بين قبر النبيِّ- صلَّى الله عليْه وسلَّم- ومنبره [33].
وضابط بيان أنْواع التَّراجم في صحيح البخاري ما بيَّنه الحافظ ابنُ حجر- رحمه الله- من أنَّ التَّراجمَ فيه ظاهرةٌ وخفيَّةٌ.
أمَّا الظَّاهرة فهي أنْ تكون التَّرجمة دالَّةً بالمطابقة لما يُورَدُ في ضمْنها، وإنَّما فائدتها الإعلام بما ورد في ذلك الباب.
وأمَّا الخفيَّة فهي التي تحتاج إلى استنباطٍ ونظرٍ في فهْم مناسبتها، فيكون فيها الإشارة إلى شرح مشكلٍ، أو تفسير غامضٍ، أو تأويل ظاهرٍ، أو تفصيل مجملٍ، ونحو ذلك؛ ولهذا اشتهر قول جمعٍ من أهل العلم: فقه البخاري في تراجمه.
وقد تكون التَّرجمة بلفظ المترْجم له، أو بعضه، أو معناه.
وكثيرًا ما يُتَرْجِمُ بلفظ الاستِفهام، وكثيرًا ما يُتَرْجِمُ بلفظٍ يُومِئُ إلى معنى حديثٍ لَم يصحَّ على شرْطه، أو يأتي بالحديث الَّذي لم يصحَّ على شرطه صريحًا في التَّرجمة، ويورد في الباب ما يُؤَيِّدُ معناه تارةً بأمرٍ ظاهرٍ، وتارةً بأمرٍ خفيٍّ، وربَّما اكتفى بلفظ التَّرجمة الَّتي هي لفظ حديث لَم يصحَّ على شرطه، وأورد معها أثرًا أو آيةً، فكأنَّه يقول: لم يصحَّ في الباب شيءٌ على شرطي. وغير ذلك من الفوائد والحكم التي لا تُحصى [34].
وقد اعتنى بعضُ العلماء بتراجم البخاري، فمنهم:
ناصر الدّين، أحمد بن المنيّر، خطيب الإسكندرية، المتوفَّى سنة (683) هـ، صنَّف كتابه المشهور: المتواري على تراجم البخاري.
وجاء بعده القاضي بدر الدين، محمَّد بن إبراهيم بن جماعة، المتوفَّى سنة (733) هـ، فلخَّص كتاب ابن منيّر، وزاد على ما فيه أشياء مفيدة، وسمَّاه: مناسبات تراجم البخاري.
مكانة الجامع الصّحيح العلمية:
قال الإمام النّووي- رحمه الله-: اتَّفق العُلماء- رحمهم اللّه تعالى- على أنَّ أصحَّ الكتب بعد القرآن العزيز الصَّحيحان: البخاري ومسلم، وتلقَّتهما الأمّةُ بالقبول، وكتاب البخاري أصحُّهما، وأكثرهما فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة، وقد صحَّ أنَّ مسلمًا كان ممَّن يَستفيد من البُخاري، ويعترفُ بأنَّه ليس له نظير في علم الحديث، وهذا الَّذي ذكرناه من ترجيح كتاب البخاري هو المذهبُ المختار الَّذي قاله الجمهور وأهل الإتْقان والحذق [35].
فهو أوَّل مُصَنَّفٍ صُنِّف في الصَّحيح المجرَّد، ثم تبعه مسلم، إلاَّ أنَّ بعضهم كأبي علي النيسابوري وبعض شيوخ المغرب حَكَى تفضيل صحيح مسلم [36].
قال ابن الصَّلاح: ومَن فضَّل كتاب مسلمٍ فإنْ كان من جهةِ أنَّه لم يورد بعد خطبته إلاَّ الحديث الصَّحيح مسرودًا، فلا بأس به، وليس يلزم منه أنَّ كتاب مسلم أرجح- فيما يرجع إلى نفسِ الصَّحيح- من كتاب البخاري، وإنْ كان المراد به أنَّ كتاب مسلم أصحُّ صحيحًا فهذا مردود [37].
وقال النَّسائي: ما في هذه الكتب كلِّها أجود من كتاب البخاري.
قال ابن حجر: والنَّسائي لا يعني بالجَودة إلاَّ جودة الأسانيد كما هو المتبادر إلى الفهْم من اصطلاح أهل الحديث، ومثل هذا من مثل النَّسائي غايةٌ في الوصف مع شدَّة تحرِّيه وتوقِّيه وتثبُّته في نقد الرِّجال وتقدُّمه في ذلك [38].
قال الحافظ ابن حجر: وقد رأيتُ الإمامَ أبا عبدالله البخاري في جامعه الصَّحيح قد تصدَّى للاقتباس من أنوارهما البهية- يعني الكتاب والسّنّة- تقريرًا واستنباطًا، وكَرَعَ من مناهلهما الرّويَّة انتزاعًا وانتشاطًا، ورُزِقَ بحسن نيَّته السَّعادة فيما جَمَعَ حتَّى أَذْعَنَ له المخالف والموافق، وتلقَّى كلامَه في الصَّحيح بالتَّسليم المطاوعُ والمفارق... [39].
وقال الحافظ ابن كثير: أجمع العلماءُ على قبوله وصحَّة ما فيه [40].
رواة الجامع الصّحيح:
قال الفَرَبْرِي: سمع الصَّحيح من البخاري تسعون ألفَ رجُل، فما بقي أحدٌ يرويه غيري [41]. فاهتمَّ المحدِّثون بسماع صحيح البخاري وإملائه، فكَثُرَ رواته، وسأذكر فيما يلي أهمَّ رواة صحيح البخاري:
1- إبراهيم بن معقل النَّسفي، المتوفَّى سنة (295) هـ [42].
2- محمّد بن يوسُف بن مَطَر الفَرَبري، المتوفَّى سنة (320) هـ، سمع الجامع من البخاري مرتين [43].
3- محمَّد بن محمَّد بن يوسُف، الجرجاني، راوي الصَّحيح عن الفَربري، المتوفَّى سنة (374) هـ [44].
4- عبدالله بن أحمد بن حَمُّويه، المتوفّى سنة (381) هـ، سمع الصَّحيح من الفَرَبْرِي، وحدَّث عنه أبو ذر الهَرَوي [45].
وقد اختلف في ضبط نسبتِه على ثلاثة أقول: الحَمُّويِيّ، والحَمُّويّ، والحَمَّوِيّ [46].
5- عبدالله بن إبراهيم بن محمّد الأصيلي المالكي، المتوفّى سنة (392) هـ، كتب بمكّة صحيح البخاري عن أبي زيد المروزي عن الفربري [47].
6- علي بن محمّد بن خلف المعافري القيرواني، القابسي، المتوفّى سنة (403) هـ، كان ضريرًا، كتب له ثقات أصحابه، وضبط له بمكَّة الصَّحيح وحرَّره وأتْقنه رفيقه الأصيلي [48].
7- عبد بن أحمد بن محمّد، أبو ذر الأنصاري الخراساني الهَرَوي، المتوفَّى سنة (434) هـ، روى صحيح البخاري عن مشايخه الثلاثة: المُسْتَملي والحموي والكُشْمِيهَني [49].
8- عبد الأوَّل أو محمَّد بن عيسى بن سعيد السِّجزي ثم الهَرَوي الماليني، أبو الوقت، المتوفَّى سنة (553) هـ، سمع صحيح البخاري من الدَّاودي وحدَّث به [50].
أهمّ شروح الجامع: [51]
حَظِيَ صحيح البُخاري بعناية العلماء والمؤلِّفين شرحًا له، واستنباطًا لأحكامه، وتكلُّمًا على رجالِه، وبيانًا لمشكلات إعرابه، إلى غير ذلك، فلذلك كَثُرَت شروحُه، وسأذكر فيما يلي بعض الشُّروح المطبوعة:
أعلام الحديث: لأبي سليمان حَمد بن محمَّد الخَطَّابي، المتوفَّى سنة (388) هـ [52].
شرح صحيح البخاري لابن بطَّال: وهو أبو الحسن عليّ بن خلف المالكي، المتوفَّى سنة (444) هـ.
الكواكب الدَّراري شرح صحيح البخاري: لمحمَّد بن يوسف الكِرماني، المتوفَّى سنة (786) هـ.
التنقيح لألفاظ الجامع الصَّحيح: لبدر الدّين الزّركشي، المتوفَّى سنة (794) هـ.
فتح الباري بشرْح صحيح البخاري: للإمام أحمد بن عليِّ بن محمَّد، ابن حجر العسقلاني الشَّافعي، المتوفّى سنة (852) هـ.
عمدة القاري شرح صحيح البخاري: لبدر الدِّين محمود بن أحمد العيني، المتوفَّى سنة (855) هـ.
إرشاد السَّاري لشرح صحيح البخاري: للشَّيخ شهاب الدّين أحمد بن محمَّد الخطيب القسطلاني، المتوفَّى سنة (922) هـ.
------------------------------
[1] قاله ابنُ الصَّلاح في علوم الحديث (ص24)، والنَّووي في تهذيب الأسماء واللّغات (1/ 73)، وللشَّيخ عبدالفتاح أبو غدّة رسالة باسم: تحقيق اسمي الصَّحيحين، واسم جامع التِّرمذي، رجَّح فيها هذا القول، وقريبٌ منه قول القاضي عياض في مشارق الأنوار (1/ 16)، قال: الجامع المسند الصَّحيح المختصر من آثار رسول الله- صلَّى الله عليْه وسلَّم.
[2] قاله الحافظ ابن حجَر في هدي السَّاري (ص6).
قال الشّيخ عبدالحقِّ الهاشمي، المتوفَّى سنة (1392) هـ، في كتابه: قمر الأقمار الطَّالع من مشارق الأنوار (ص24)، كما جاء في مقدِّمة كتاب عادات الإمام البخاري في صحيحه للشَّيخ نفسه- شارحًا لهذه التَّسمية: إنَّما سمَّاه جامعًا لأنَّه جمع فيه الفنون الثَّمانية: فنّ الحديث، وفنّ العقائد، وفنّ الفِقْه، وفنّ السِّيرة، وفنّ الرِّقاق، وغيرها، وسمَّاه مسنَدًا لأنَّه أورد فيه الأحاديث المسندة إلى النَّبي- صلَّى الله عليْه وسلَّم- وما أورد فيه عن الصَّحابة والتَّابعين ومَن بعدَهم، ومن المعلَّقات فإنَّما هو بالتَّبع، وسمَّاه صحيحًا لأنَّه أورد فيه ما صحَّ عندَه، وسمَّاه مختصرًا لأنَّه خرَّجه من ستِّمائة ألفِ حديثٍ واختصرَه منها... .
[3] انظر: هدي السَّاري (ص4).
[4] انظر: التقريب والتيسير لمعرفة سُنَن البشير النَّذير (ص10).
[5] انظر: تهذيب الأسماء واللُّغات (1/ 74)، وهدي السَّاري (ص5).
[6] انظر: هدي السَّاري (ص5).
[7] انظر: تهذيب الأسماء واللّغات (1/ 74)، وهدي السَّاري (489).
[8] انظر: هدي السّاري (ص5).
[9] المرجع السَّابق (ص7).
[10] انظر: علوم الحديث (ص26).
[11] انظر: هدي السّاري (ص7).
[12] انظر: المرجع السّابق (ص489).
[13] انظر: تهذيب الأسماء واللّغات (1/ 74)، وهدي السَّاري (ص489).
[14] قال الشَّيخ الكوثري في تعليقه على كتاب المقدسي شروط الأئمَّة السِّتة (ص85): يعني سوى اشتراط اللُّقي عند البخاري، والاكتِفاء بالمعاصرة عند مسلِم.
[15] قال النَّووي في شرح مسلم (1/ 16): ما اختلفت الثِّقات فيه في نفس الحديث متنًا أو إسنادًا، ولم يُرِدْ ما كان اختلافهم إنَّما هو في توثيق بعض رواته.
[16] انظر: شروط الأئمَّة السِّتَّة (ص85).
[17] انظر: شروط الأئمَّة الخمسة (ص145)، وهدي السَّاري (ص7).
[18] انظر: شرح نخبة الفكر (ص135).
[19] لخَّص الحافظ ابن حجر كلامَ شيخه البُلقيني في ذكر تناسُب ترْتيب الأبواب في هدي السّاري (ص470) فانظره.
[20] انظر: منهج النقد (ص253).
[21] انظر: علوم الحديث (ص20)، وإرشاد طلاب الحقائق (ص60).
[22] هدي الساري (ص468).
[23] وهو أبو الفضل بن طاهر في كتابه: جواب المتعنّت، انظر: هدي السّاري (ص465).
[24] هدي الساري (ص 477).
[25] ذلك وفق ترقيم صاحب دليل القاري إلى مواضع الحديث في صحيح البخاري لعبد الله محمّد الغنيمان. انظر: الإيضاح في علوم الحديث والاصطلاح (ص61).
[26] انظر: هدي السّاري (ص12)، وقد نبَّه الحافظ إلى أنَّ هذا مختصر كلام الحافظ المقدسي في رسالته التي سمَّاها جواب المتعنّت.
[27] انظر: هدي السّاري (ص15).
[28] انظر: تدريب الرّاوي (1/ 182).
[29] انظر: هدي السَّاري (ص16).
[30] انظر: هدي السّاري (ص14).
[31] قال ابن الصّلاح: ومع ذلك فإيراده له في أثناء الصَّحيح مشعرٌ بصحَّة أصله إشعارًا يُؤْنَسُ به ويُرْكن إليه. وقال أيضًا: وإنَّ ما يتقاعد من المعلَّقات عن شرط الصَّحيح قليلٌ، يوجد في كتاب البخاري في مواضع من تراجم الأبواب دون مقاصد الكتاب وموضوعه.
وقال الحافظ ابن حجر: وأمَّا إيراد البخاري للضَّعيف الَّذي لا عاضد له؛ فلأنَّه على وفق العمل، أو حُكِيَ إجْماع أهل العلم على القول به، وإلاَّ فإيراده في الكتاب قليلٌ جدًّا، قال: وحيث يقع ذلك منه يتعقَّبه المصنِّفُ بالتَّضعيف. انظر: هدي السَّاري (ص15).
[32] انظر: هدي السَّاري (ص16).
[33] انظر: سير أعلام النّبلاء (12/ 443)، وهدي السّاري (ص489).
[34] انظر: هدي السَّاري (ص11).
[35] شرح النَّووي على صحيح مسلم (1/ 14)، وانظر: علوم الحديث (ص18).
[36] قال ابن حجر: يظهر لي أنَّ تقديمَ أبي علي النَّيسابوري صحيحَ مسلم؛ لأنَّ مسلمًا صنَّف كتابه في بلدِه بحضور أصوله في حياة كثيرٍ من مشايخه، فكان يتحرَّز في الألفاظ، ويتحرَّى في السِّياق، ولا يتصدَّى لما تصدَّى له البخاري من استِنْباط الأحكام... ؛ هدي السَّاري (ص12).
[37] علوم الحديث (ص19).
[38] انظر: هدي السَّاري (ص10).
[39] هدي السّاري (ص2).
[40] انظر: البداية والنّهاية (11/ 25).
[41] انظر: سير أعلام النّبلاء (12/ 398)، قال الحافظ ابن حجر: وأطلق ذلك بناءً على ما في عِلْمه، وقد تأخَّر بعده بتِسْع سنين أبو طلحة منصور بن محمّد بن عليّ بن قريبة البزدوي، وكانت وفاته سنة تسعٍ وعِشْرين وثلاثمائة؛ هدي السَّاري (ص491).
[42] انظر: تذكرة الحفَّاظ (2/ 686)، والأعلام (1/ 70).
[43] انظر: وفيات الأعيان (4/ 290)، وسير أعلام النّبلاء (15/ 10).
[44] انظر: ميزان الاعتدال (6/ 323)، ولسان الميزان (5/ 363).
[45] انظر: سير أعلام النّبلاء (16/ 492).
[46] انظر: تبصير المنتبه بتحرير المشتبه (2/ 151).
[47] انظر: تذكرة الحفَّاظ (3/ 1024)، والأعلام (4/ 187).
[48] انظر: سير أعلام النُّبلاء (17/ 158)، والأعلام (5/ 145).
[49] انظر: تذكرة الحفَّاظ (3/ 1103)، والأعلام (4/ 41).
[50] انظر: تذكرة الحفَّاظ (4/ 1315).
[51] انظر: كشف الظنون (1/ 545)، والإمام البخاري للدّكتور تقيّ الدِّين الندوي (ص140).
[52] اختلف في اسم شرح الخطَّابي على أقوال، منها: أعلام الحديث، وأعلام السنن، وأعلام البخاري، انظر: الإمام الخطَّابي للدكتور أحمد عبدالله الباتلي (ص229).
الكاتب: بلال مصطفى علوان.
المصدر: موقع الألوكة.